
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4045
وزير خارجية "إيران" يعرف كيف يتحدث بلغة "ترامب"- حرفياً

في محاولة لاسترضاء - بل والتلاعب - برائد "دبلوماسية تويتر"، تبنّى كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين أسلوب الرئيس ترامب في وسائل التواصل الاجتماعي، ساعيأً وراء شروط مواتية للصفقة الكبرى المقبلة.
الهجوم الأخير على ما وُصف بـ"فريق بايدن الفاشل – الذي عجز عن التوصل إلى اتفاق مع إيران" لم يصدر عن "ترامب" أو أحد حلفائه، بل جاء من وزير الخارجية الإيراني "عباس عراقجي"، عبر منشور على منصة تويتر (إكس) بتاريخ 28 نيسان/أبريل. والمفارقة أن هذا الهجوم جاء من داخل دولة تحظر رسمياً منصات التواصل الاجتماعي، ولا يستطيع معظم مواطنيها الوصول إليها إلا من خلال أدوات تجاوز الحظر مثل الشبكات الخاصة الافتراضية (VPNs). وعلى الرغم من ذلك، تبنّى "عراقجي" دبلوماسية تويتر في أدائه الرسمي كرئيس للمفاوضين النوويين، مستلهماً أسلوب "ترامب" الذي اعتمده خلال ولايته الأولى.
"عراقجي"، الذي يتقن اللغة الإنجليزية ويحمل درجة الدكتوراه من إحدى جامعات "المملكة المتحدة"، يتمتع بفهم عميق للخطاب السياسي الأميركي. ومن خلال محاكاة أسلوب "ترامب" في التواصل – بما في ذلك الاستخدام العرضي للحروف الكبيرة – برز كدبلوماسي بارع يسعى إلى تعزيز فرص التوصل إلى اتفاق نووي جديد تحتاجه "طهران" وتسعى إليه، في تناقض صارخ مع الخطاب التصعيدي الذي تبناه النظام الإيراني خلال عهد "ترامب" السابق.
تشير العديد من المؤشرات إلى أن الدبلوماسيين الإيرانيين قد درسوا خطابات "ترامب" وأسلوب تفاوضه عن كثب، بل يُشاع أنهم أعدّوا ملفاً نفسياً خاصاً عنه. كما أفادت تقارير بأن وزارة الخارجية الإيرانية أنشأت في وقت مبكر من شهر آذار/مارس 2024 مجموعة عمل غير رسمية متخصصة في الاستعداد لاحتمالية عودة "ترامب" إلى "البيت الأبيض". ولا شك أن "طهران" تتابع عن كثب كيفية تعامل الإدارة الأميركية الحالية مع مفاوضات "روسيا" و"أوكرانيا"، وتستخلص منها دروساً حول كيفية الرد على السياسات الأميركية دون أن تظهر بمظهر المتصلب أو تستعدي "ترامب" بشكل قد يدفعه إلى الانسحاب من أي مفاوضات. ومن اللافت أيضاً أن النسخ غير المصرّح بها من كتاب "ترامب" الأكثر مبيعاً عام 1987 "Trump: The Art of the Deal" قد عادت لتنفد من رفوف المكتبات الإيرانية.
جدير بالذكر أن هذا النوع من التكتيك ليس غريباً على "طهران"؛ فقد سبقه إليه "محمد جواد ظريف"، وزير الخارجية السابق الذي تلقى تعليمه في "الولايات المتحدة" خلال فترة رئاسة "حسن روحاني"، وكان من أبرز مهندسي الاتفاق النووي لعام 2015 المعروف بـ"خطة العمل الشاملة المشتركة " (JCPOA). حتى وقت قريب، كان "ظريف" يشغل منصب نائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية في حكومة الرئيس "مسعود بزشكيان"، قبل أن يضطر للاستقالة في آذار/مارس تحت ضغط من المتشددين. ومع خروج "ظريف"، انتقل هذا الدور إلى "عباس عراقجي"، الدبلوماسي المخضرم الذي كان يشغل منصب النائب الثاني لـ"ظريف" خلال المفاوضات النووية الأصلية، ويملك خبرة تمتد لعقدين في هذا الملف، رغم أن أسلوبه الشخصي في التعامل مع المسؤولين الأجانب يختلف تماماً عن سلفه.
وفي مقابلة أجريت بتاريخ 14 أيار/مايو، وصفت "ويندي شيرمان" – كبيرة المفاوضين النوويين الأميركيين خلال إدارة الرئيس "باراك أوباما " - "عراقجي " بأنه "يعرف كل ما يجب معرفته في هذا الشأن ويتحدث الإنجليزية بطلاقة"، مضيفة: "إذا لم تكن في قمة تركيزك، فسوف يدور بك في دوائر ".
منذ بدء الجولة الحالية من المحادثات في 12 نيسان/أبريل، عمل "عراقجي" على صياغة سردية إعلامية مدروسة بعناية لجذب انتباه "ترامب" وقاعدته الانتخابية. ففي مقال رأي نُشر في 8 نيسان/أبريل على صفحات "واشنطن بوست "، أشار إلى أن "ترامب" "لا يريد أن يصبح رئيساً أميركياً آخر يغوص في حرب كارثية في الشرق الأوسط" – وهي رسالة تستهدف بشكل مباشر ناخبي "ترامب" الأساسيين والمتمسكين بمبدأ الانعزالية، بما يتماشى مع التوجه طويل الأمد للإدارة السابقة في تجنّب "الحروب الأبدية ".
كما حاول "عراقجي" مخاطبة غرائز الرئيس التجارية، واصفًا "إيران" بأنها "فرصة تريليون دولار" لـ"الولايات المتحدة". في الواقع، ستبقى عوائق كبيرة أمام الاستثمار الأجنبي حتى لو رُفعت العقوبات الأمريكية، بما في ذلك البيروقراطية المعقدة والمخاطر الجيوسياسية والفساد داخل "الجمهورية الإسلامية"، وربما الأهم، إخفاق "طهران" في الامتثال لـ"فرقة العمل للعمل المالي"، المراقب الدولي الرئيسي لغسيل الأموال وتمويل الإرهاب (رغم أن "إيران" وافقت مشروطاً على الانضمام إلى "اتفاقية باليرمو" في وقت سابق من هذا الشهر، خطوة مهمة نحو امتثال FATF). في أي حال، تم تكرار هذا الخطاب الاقتصادي في الملاحظات الرسمية التي أعدّها "عراقجي" لمؤتمر السياسة النووية الدولي الذي نظمته "مؤسسة كارنيغي" في 22 نيسان/أبريل. والمثير أن هذه الملاحظات نُشرت لاحقاً بعد أن أعلنت المؤسسة إلغاء مشاركة "عراقجي" في اللحظة الأخيرة، إثر محاولات فريقه فرض قيود غير مبررة على الحدث.
وفي خطابه الذي كان معداً للمؤتمر، أشار "عراقجي" إلى أن "بعض مجموعات المصالح الخاصة" – في إشارة ضمنية إلى المحافظين الجدد ومراكز الأبحاث الرافضة لأي اتفاق – تحاول الترويج "لكذبة أن الاتفاق المحتمل ما هو إلا نسخة أخرى من JCPOA". وأكد أن "طهران" لم تعد ترغب في العودة إلى الاتفاق السابق، معتبراً أن شروط JCPOA "لم تعد كافية"، كما استشهد بانسحاب "ترامب" من الاتفاق عام 2018 كدليل على أن الرئيس نفسه "لا يريد اتفاقاً مماثلاً". وأضاف أن تلك "المجموعات الخاصة " سبق أن شنت حملات لتشويه سمعة المفاوضين الإيرانيين، وضغطت على الإدارة الأميركية من أجل تبني مواقف متطرفة.
في مناسبات أخرى، حرص "عراقجي" على نزع المسؤولية عن "ترامب" في ما يتعلق بالتوترات الدبلوماسية، في تناقض واضح مع الطريقة التي تعامل بها "ظريف " مع إدارة "ترامب" خلال ولايته الأولى. ففي 7 أيار/مايو، أفادت تقارير إعلامية بأن "ترامب" يخطط لإعادة تسمية "الخليج الفارسي" ليصبح "الخليج العربي" أو "خليج العرب" خلال زيارته الأخيرة للمنطقة. وعلى عكس "ظريف"، الذي نسب هذه المحاولة إلى "ترامب" في عام 2017، قال "عراقجي " إن تلك الأنباء "ليست سوى حملة تضليل إعلامي من قبل دعاة الحروب الأبدية لإثارة غضب الإيرانيين في أنحاء العالم". وأعرب عن ثقته في أن "ترامب" "يعرف الاسم التاريخي لهذا الممر المائي"، مؤكّداً ذلك من خلال وسم حساب "ترامب" مباشرة في منشوره. ("ترامب " يبدو أنه غير رأيه، في الوقت الحالي.)
كما حاول "عراقجي" في عدة مناسبات خلق فجوة بين "ترامب" و"إسرائيل"، العدو اللدود لـ"طهران". ففي 5 أيار/مايو، اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" بأنه "يحاول فرض إرادته على ترامب بشأن ما يمكنه وما لا يمكنه فعله في ملف الدبلوماسية مع إيران"، مشيراً إلى سجله في الدعوة إلى عمل عسكري ضد البرنامج النووي الإيراني. وأضاف أن "نتنياهو خدع فريق بايدن الفاشل لتقديم 23 مليار دولار غير مسبوقة من أموال دافعي الضرائب الأميركيين"، في إشارة إلى الدعم العسكري الأميركي لـ"إسرائيل" خلال حرب "غزة". وفي منشور سابق، أشار "عراقجي" إلى أن "نتنياهو" وحلفاءه في إدارة "بايدن" "شوّهوا مفاوضاتنا غير المباشرة مع إدارة ترامب من خلال الادّعاء بأنها مجرد JCPOA أخرى" – وهي خطوة محسوبة نظراً لرفض "ترامب" الصريح لأي اتفاق يرتبط بالديمقراطيين. كما وسم "عراقجي " حساب "ترامب" في منشور آخر يتهم فيه "نتنياهو" بـ"تحديد ما يستطيع @realdonaldtrump فعله وما لا يستطيع فعله ".
ولا تقتصر هذه الاستراتيجية الإيرانية في الرسائل على منشورات مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، بل امتدت لتشمل دعوات موجهة لرموز إعلامية أميركية محسوبة على تيار "ترامب". فقد دعت قناة تلفزيونية ناطقة بالفارسية إلى زيارة المعلّق الأميركي "تاكر كارلسون"، مشيدة بتغطيته الإعلامية لجولة داخل متجر بقالة روسي وسط الحرب في "أوكرانيا". ويبدو أن الغاية من هذه الدعوة هي جذب انتباه "ترامب" والتأثير على موقفه تجاه "إيران"، مع التغطية على الواقع الاقتصادي الصعب والقمع الداخلي الذي يرزح تحته المواطن الإيراني.
بالمجمل، تُبرز حملة "عراقجي" الإعلامية مدى حرصه على التوفيق بين تعقيدات المفاوضات النووية الدقيقة والواقع السياسي الأميركي المشحون. ويبدو أنه يسعى إلى إيجاد نغمة دقيقة: حازمة بما يكفي لتأكيد قوة "إيران" أمام ما تعتبره نزعة أميركية استعمارية، ولكن مرنة بما يكفي لتجنّب استفزاز رئيس لا يمكن التنبؤ بردوده، ويمسك بخيوط سياسة "الضغط الأقصى". ومن خلال التحدث بلغة "ترامب"، لا يوجّه "عراقجي" رسائله إلى الرئيس وحده، بل إلى قاعدته أيضاً، في محاولة لإعادة ضبط رقعة الشطرنج وفق شروط "إيران ".